تَعتَبِر الولايات المتَّحدة مَرْكَزا لِلابْتكار اَلعلْمِي والتَّقدُّم فِي مَجَال الصِّحَّة، حَيْث ساهمتْ جامعاتهَا ومؤسَّساتهَا البحْثيَّة فِي تَطوِير العلاجات، وإحْدَاث ثَوْرات فِي اَلعُلوم الطِّبِّيَّة، وصياغة مُسْتقْبَل الصِّحَّة العامَّة عالميًّا. لَكِن التَّوجُّهات السِّياسيَّة الأخيرة تُهدِّد هذَا الدَّوْر الرِّياديِّ ويطْرح تساؤلات حَوْل مُسْتقْبَل البحْث اَلعلْمِي والابْتكار الصِّحِّيِّ فِي العالم. مَا اَلذِي يَحدُث عِنْدمَا تُوَاجِه بِيئة البحْث اَلعلْمِي تقْليصًا فِي التَّمْويل يَصِل إِلى 50 % خِلَال أَربَع سَنَوات (فتْرة حُكْم الرِّئاسة الحاليَّة) فِي الجامعات الأمْريكة؟ كَيْف يُمْكِن أن تُؤثِّر هَذِه السِّياسات على وَتطوِير الأدْوية وَتحقِيق الاكْتشافات العلْميَّة اَلتِي لَطَالمَا اِعتمَد عليْهَا العالم؟ فِي هَذِه المقالة، أَستعْرِض تداعيات هَذِه التَّحوُّلات مِن تَقلِيص تَموِيل المعْهد الوطَنيِّ لِلصِّحَّة (NIH) إِلى اِنسِحاب الولايات المتَّحدة مِن مُنَظمَة الصِّحَّة العالميَّة (WHO ) ، بِالْإضافة إِلى تَأثِير هَذِه الخطوات على التَّعاون اَلدوْلِي وَنقَل المعْرفة بَيْن العلماء. هل نَحْن أَمَام مَرْحَلة تُعيد تَشكِيل مَوازِين اَلقُوى العلْميَّة فِي العالم؟ وهل هُنَاك فُرصَة لِدول أُخرَى لِمَلء هذَا الفرَاغ والْمضيِّ فِي قِيادة الابْتكار الصِّحِّيِّ؟ الإجابة لَيسَت بسيطَةً، لَكِن المسْتقْبل اَلقرِيب سَيكشِف كَيْف ستتفاعل المؤسَّسات الأكاديميَّة والْمجْتمع اَلعلْمِي العالميَّ مع هَذِه التَّحدِّيات.
تَقلِيص تَموِيل المعْهد الوطَنيِّ لِلصِّحَّة
إِنَّ تَخفِيض تَموِيل المعْهد الوطَنيِّ لِلصِّحَّة (NIH) هُو تَغيِير جَذرِي فِي مَنظُومة البحْث اَلعلْمِي والابْتكار حَيْث يَتِم تنْفيذه بِطريقة قد تَجعلُه واقعًا لََا رَجعَة فِيه. نَحْن نَتَحدَّث عن تخْفيضات تَصِل إِلى 50 % على مَدَار أَربَع سَنَوات فِي بَعْض أَكبَر الجامعات البحْثيَّة وَهُو أَمْر لَم تشْهدْه الأوْساط الأكاديميَّة مُنْذ عُقود. هَذِه التَّغْييرات تُؤثِّر بِشَكل مُبَاشِر على نِظَام وَآلِية البحْث اَلعلْمِي اَلذِي شَكَّل العمود اَلفقْرِي لِلابْتكار والاكْتشافات الطِّبِّيَّة فِي الولايات المتَّحدة، وَالتِي تمَّ تصْديرهَا إِلى بَقيَّة العالم. هذَا الأمْر دَفْع 22 وِلاية لِرَفع دَعوَى قَضائِية فِي المحْكمة الفيدْراليَّة فِي ماساتْشوسْتس لِوَقف هَذِه السِّياسة، وَمِن اَلمُقرر أن تُعقَد جَلسَة اِستِماع فِي 21 فبْراير. هَذِه لَيسَت المعْركة القانونيَّة الوحيدة فهناك تحالفات عِلْميَّة تُحَاوِل الآن كَبْح قَرَار خَفْض تَموِيل الأبْحاث الطِّبِّيَّة وَتقلِيل أَثرِه على مُسْتقْبَل البحْث اَلعلْمِي فِي الولايات المتَّحدة. السُّؤال: هل تَسطِيع قُوَّة العلم والْقانون مُوَاجهَة السَّاسة وَمتخِذي القرَار فِي العاصمة واشْطَنْ؟
التَّقْييد على نَشْر الأبْحاث
تَأثِير تَقلِيص التَّمْويل سيحْدث تَغيِير جَذرِي فِي طَرِيقَة نَشْر العلماء لِنتائجهمْ. إِنَّ نِظَام النَّشْر اَلعلْمِي اَلذِي يَقُوم على مُرَاجعَة الأقْران، وَضَمان النَّزاهة العلْميَّة، ومشاركة المعْرفة بَيْن الباحثين فِي جميع أَنحَاء العالم، أَصبَح فِي خطر. هَذِه اَلقُيود الجديدة قد تُؤدِّي إِلى تَقلِيص حَجْم المعْرفة المتاحة، مِمَّا قد يَنعَكِس سلْبًا على تَطوُّر اَلعُلوم الصِّحِّيَّة والطِّبِّيَّة عالميًّا.
مُؤَخرا وفْقًا لِمقالة مَنشُورة فِي BMW، فقد تمَّ مَنْع الباحثين فِي المؤسَّسات الفيدْراليَّة مِن مُشَاركَة دِراساتهم عَبْر المسوَّدات العلْميَّة (preprints ) ، وَهِي خُطوَة تَعتَبِر تقْييدًا لِلشَّفافيَّة العلْميَّة وتدخُّل صَارِخ ومعيق لِنَشر المعْرفة العلْميَّة بِسرْعَة، خَاصَّة فِي مجالَات مِثْل الأوْبئة، حَيْث تَكُون السُّرْعة فِي مُشَاركَة النَّتائج أمْرًا بَالِغ الأهمِّيَّة.
الانْسحاب مِن مُنَظمَة الصِّحَّة العالميَّة
أَصدَر البيْتُ الأبْيض بيانًا رسْميًّا يُعْلِن فِيه اِنسِحاب الولايات المتَّحدة مِن مُنَظمَة الصِّحَّة العالميَّة (WHO ) ، مُشيرًا إِلى سُوء إِدارتهَا لِجائِحة كُلوفيدْ- 19 وتأْثيرات النُّفوذ السِّياسيِّ دَاخِل المنظَّمة على سِياسَات الصِّحَّة العامَّة. هذَا القرَار يَعرِض التَّعاون اَلدوْلِي فِي الصِّحَّة العامَّة لِلْخطر ويؤثِّر على اَلجُهود العالميَّة لِمكافحة الأوْبئة والْأمْراض المعْدية. إِقرَار الانْسحاب مِن مُنَظمَة الصِّحَّة العالميَّة يَعتَبِر اَلخُطوة اَلأُولى وقد تتَّبعهَا خُطوات أُخرَى وانْسحاب مِن مُنظمَات عَالمِية تَتَجاوَز تبعاتهَا الولايات المتَّحدة. مُنَظمَة الصِّحَّة العالميَّة تَعتَمِد بِشَكل كبير على الدَّعْم الماليِّ الأميركيِّ، وغياب هذَا التَّمْويل سيؤثِّر بِشَكل أَساسِي على الدُّول الفقيرة اَلتِي تَعتَمِد على بَرامِج المنظَّمة فِي مُكَافحَة الأمْراض المعْدية. ومع ذَلِك لََا يُمْكِن تَجاهُل تَأثِير ذَلِك أيْضًا على الدُّول المتقدِّمة لِأنَّ الأمْراض الوبائيَّة لََا تَعتَرِف بِالْحدود وأيِّ ضَعْف فِي الاسْتجابة العالميَّة قد يُؤدِّي إِلى مَخاطِر صِحِّية أَوسَع نِطاق.
مُسْتقْبَل البحْث اَلعلْمِي والابْتكار
البحْث اَلعلْمِي والابْتكار وتأْثيرهمَا عَابِر لِلْحدود، ومَا يُؤثِّر على الولايات المتَّحدة اليوْم سيؤثِّر حتْمًا على بَقيَّة العالم. ومع ذَلكَ، فَإِن هَذِه الأزْمة قد تَخلُق فُرصَة لِدول أُخرَى كيْ تَتَقدَّم وَتسُد الفجْوة. قد نَشهَد دُوَلا مِثْل الصِّين أو السُّعوديَّة أو الاتِّحاد الأوروبِّيِّ تَتخِذ خُطوات جَادَّة لِتعْزِيز اِسْتثْماراتهَا فِي البحْث اَلعلْمِي وَتطوِير العلاجات المبْتكرة. نَحْن نَتَحدَّث عن قضايَا تمسُّ حَيَاة البشر بِشَكل مُباشِر، عن الوقاية مِن الأمْراض، وعن الابْتكار فِي مَجَال الرِّعاية الصِّحِّيَّة. هُنَاك أَمرَاض مُزْمِنة وَأُخرَى بِلَا عِلَاج حَتَّى الآن تُؤثِّر على الاقْتصاد العالميِّ، وتحْتَاج إِلى جُهُود عَالمِية مُتواصلة لِإيجَاد حُلُول لَهَا. إِنَّ هَذِه الأسْئلة والتَّحدِّيات تَحْتاج إِلى اِهتِمام فَورِي مِن القادة حَوْل العالم، فالْمسْتقْبل يَعتَمِد على القرارات اَلتِي يَتِم اِتِّخاذهَا اَلْيَوم. هل ستتمَكَّن الولايات المتَّحدة مِن الحفَاظ على رِيادتهَا فِي البحْث اَلعلْمِي والصِّحَّة، أم أَننَا على أَعتَاب مَرْحَلة جَدِيدَة يَتَغيَّر فِيهَا مِيزَان اَلقُوى العلْميَّة عالميًّا؟