في ذاكرتي منذ صغري، يعلق مشهد إعلان شركة الزبدة الدنماركية الذي يُظهر أشخاصًا يدللون بقرتهم بالموسيقى لضمان إنتاج زبدة عالية الجودة. كانت هذه الصورة بمثابة مبالغة مسلية في نظر طفل، ولكنها تركت بصمة دائمة في ذاكرتي. هذه الذكرى المثيرة رافقتني حتى عندما تلقيت قبولي في جامعة كوبنهاجن العريقة وبدأت رحلتي في التعرف على الثقافة الدنماركية.
بناءً على تجربتي الشخصية التي قضيتها في الدنمارك، أستطيع القول بثقة أن المبالغة في الإعلان لم تكن بعيدة كل البعد عن الحقيقة. الحياة في الدنمارك تُجسد مفهوم الرفاهية بطريقة لم أشهدها حتى خلال دراستي للماجستير في كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية. في الدنمارك، لا تُقاس الرفاهية بالدخل السنوي الضخم كما هو شائع في أمريكا، بل تُبنى على أسس الرعاية الاجتماعية والمساواة.
النظام الضريبي في الدنمارك يدعم بشكل كبير مستوى معيشة متقارب بين الجميع، حيث توفر الحكومة دعمًا ربع سنويًا للمواطنين منذ ولادتهم وحتى انتهاء مراحلهم التعليمية، التي هي بدورها مجانية من الروضة حتى المستوى الدكتوراه. هذا بالإضافة إلى المعونات للعاطلين عن العمل، في بلد يتميز بمعدل بطالة منخفض (4.9% هذا العام).
تتميز البنية التحتية في الدنمارك بالتجانس في جميع أنحاء البلاد. سواء كنت في العاصمة أو في قرية نائية بالشمال أو الجنوب، ستجد مرافق عامة ممتازة تشمل وسائل النقل العام والمدارس والمراكز الصحية التي تقدم رعاية مجانية وعالية الجودة للمواطنين والمقيمين على حد سواء.
أمان البلاد عالٍ لدرجة أن مشهد طفل في الثامنة يودعه والديه في محطة القطار وهو يحمل حقيبته المدرسية يعتبر أمرًا طبيعيًا. كما أن بعض المدارس لا توجد بها حواجز تفصلها عن الشوارع، مما يدل على مستوى الأمان العالي. أضف إلى ذلك، التلوث البيئي منخفض وجودة الهواء والماء عالية مقارنة بمعظم الدول المتقدمة.
في الدنمارك، لا تبدو السعادة مرتبطة بالثروة أو السعي المحموم وراءها. هنا، يعيش الناس براحة بال، حيث يمكن الحصول على متطلبات الحياة الأساسية مثل السكن والتأمين الصحي والتعليم دون الحاجة للعمل لساعات طويلة. الدنماركيون يبحثون عن السعادة في الأشياء البسيطة واللحظات المشتركة مع الأحباء، لا في التراكم المادي، وهو درس قيم قد يعلمنا جميعًا كيف يمكن لمجتمع أن يزدهر دون أن يضيع في سباق الثروة.
الدنماركيون لا يركضون وراء الثراء و أحلام السعادة السرابية، وجدتهم يركضون فقط في الحدائق والمضامير مع من يحبون.