loader image

حين يقودنا الضياع إلى أجمل اللحظات

خلال سنوات دراستي في الدنمارك، -وخصوصا- في بداياتها، كنت كباحث ينتظر نهاية الأسبوع كي أتنفس الصعداء. كان لا بد من الخروج قليلا من جو الجامعة والأبحاث، إلى ضواحي كوبنهاغن مع العائلة.

كوبنهاغن الجميلة بدأت تخلع ثوبها الأبيض وتكتسي بألوان فاتنة من الورود وكأنها مدعوة لموعد غرامي مع البهجة. كنت أحتاج السيارة في تلك الرحلات- لم يكن لدى سيارة طيلة الخمس سنوات وهنا تجد السبب -وبطبيعة الحال أعتمد على خرائط جوجل لقلة خبرتي في القيادة والطرق خارج العاصمة كوبنهاجن.

الطرق بين المزارع والقرى الصغيرة مشتتة بشكل بديع والضياع أصبح هو أساس الرحلة.

في البداية كنت أتضجر، وأتساءل: كيف فاتتني هذه اللفة؟ هذا الالتفاف سيكلفني ربع ساعة إضافية -على الأقل-! لكن مع تكرار التجربة -وخصوصا- في رحلة محددة ما زالت عالقة في ذهني، اكتشفت شيئا غير نظرتي.

ذات مرة فقدت الطريق المرسوم فإذا بي أجد نفسي أمام احتفال صغير في قرية هادئة. كان موسم الفراولة، وجلسنا نلتقطها ونأكلها وتذوقت مع عائلتي فطيرة فراولة طازجة وقهوة بطعم مختلف. لحظات ما زالت عالقة وكلها لم تكن لو لم “أفوت” الطريق المرسوم!

هنا أدركت أن أجمل ما في الرحلة لم يكن فيما خططت له، بل فيما ساقني إليه القدر بلا موعد ولا خريطة. الطرق المرسومة دائما تقودك إلى المتوقع، أما الطرق التي تأتي صدفة فهي التي تفتح لك أبواب الدهشة والبهجة -وفي كثير من الأحيان- الرضا. إذا لم تخطط لشي ولم تتوقع شيئا… في الغالب أي شيء سيكون رائعا… فقط كن حاضرا وجاهزا. منذ ذلك اليوم تغير شيء في داخلي. توقفت عن رسم الخطط الصارمة، وتوقفت عن التعامل مع حياتي كما لو أنني شركة تحتاج إلى خطة خمسية ومراجعة داخلية وخارجية كأنني سأطرح للاكتتاب!

لدي مبادئ ثابتة وقيم لا تتغير، لكن تفاصيل الأيام أتركها تسير كما قدر لها خالقها أن تسير… عندما أجلس لأكتب ورقة علمية أكتب بكل ما أملك من طاقة. عندما ألعب مع طفلي أعيش اللحظة كأنها الدنيا بأكملها.

هذا ما تعلمته من تلك اللفة التي لم تكن في الخريطة: أن الحياة لا تُقاس بما خططنا له، بل بما عشناه بكامل حضورنا. وأجمل اللحظات قد لا تكون في الخط المستقيم الذي رسمناه، بل في الانعطافات التي ظنناها ضياعًا.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *