loader image

ثقافة التبسي

في قلب تقاليدنا العربية، وخاصة في دول الخليج، يقف “التبسي” شامخا كرمز للوحدة والمشاركة هذا الصحن الكبير والدائري، الذي يحتضن الأرز واللحم وغيرها من المأكولات، يجمعنا حوله لنشترك الطعام في إناء واحد. هذه العادة، التي كانت في الماضي ضرورة بسبب ندرة الأواني، لا زالت تزهو في مناسباتنا رغم تغير الزمن وتوافر البدائل. لكن، يطرح السؤال: هل تواكب عادة التبسي احتياجاتنا الصحية والغذائية اليوم؟
العلم يقول إن رسالة الشبع تأخذ حوالي عشرين دقيقة لتصل من معدتنا إلى دماغنا، وفي غمرة الجلسات الجماعية حول التبسي، قد نتجاوز حد الاكتفاء دون إدراك. هنا، لا يدعو الحديث إلى التخلي عن جمالية هذه العادة، بل إلى تحسين طريقتنا في التعامل معها. البحوث العلمية تشير إلى أهمية تحديد الكميات والإدراك الذاتي للاحتياجات الغذائية كعوامل أساسية للحفاظ على الصحة والوزن المثالي.
وإلا سينشأ ما يمسي الأكل اللاواعي ما يعرفه البروفيسور براين وينسونك، يضعنا أمام حقيقة أن طريقة تناولنا للطعام لا تحكمها الجوع وحسب، بل البيئة والعادات المحيطة بنا أيضا.
أكبر من الطعام بدافع الجماعية وليس الحاجة الفعلية للطعام. يحدث هذا ليس فقط بسبب الجوع، بل كذلك بفعل العوامل الاجتماعية والنفسية المحيطة بعملية تناول الطعام.
من هنا، تبرز أهمية التوعية بمخاطر “الأكل غير الواعي” وكيف يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية متنوعة، بما في ذلك السمنة وارتفاع مستويات السكر في الدم. البحوث العملية أظهرت أن الإفراط في حجم الحصص الغذائية يساهم في زيادة الوزن، خاصة عندما يكون تقدير الكميات صعبا، كما هو الحال مع الأطعمة التي لا شكل محدد لها مثل الأرز.
في المقابل يجب أن لا ننكر تأثيرات أسلافنا علينا فالتاريخ يعلمنا أن التجارب البيئية والغذائية لأسلافنا لا تزال تؤثر فينا حتى اليوم. الدراسات في “علم فوق الجينوم” تبين كيف يمكن للتغيرات الغذائية أن تؤثر ليس فقط على الفرد، بل وعلى أجياله القادمة.
مثلا في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي حصل في مدينة بأقصى شمال السويد تقلبا شديدا في وفرة الغذاء نظرا للظروف المناخية، فمن مجاعة شديدة إلى توفر عال في الأكل، ثم مجاعة أخرى، وهكذا. وقد حصل ذلك خلال عدة سنوات متعاقبة. وفي السنوات التي كان فيها الغذاء متوفرا فإن الفائض من المحاصيل يصعب تخزينه أو بيعه، وكان معظمه يستهلك من قبل سكان تلك المدينة. لم تمر هذه الظاهرة مرور الكرام على الباحثين في معهد كارولينسكا في السويد، حيث قاموا بتجميع البيانات الخاصة بسكان تلك المنطقة في ذلك الوقت، وتتبعوا ذريتهم، وخلصوا إلى نتائج أسهمت في تكوين ما يسمى ب “علم فوق الجينوم”، وهو علما يدرس تأثير البيئة المحيطة على الجينات وتركيبها.
لقد وجد الباحثون أن التجربة التي عاشها ذلك المجتمع في تلك المدينة لم تؤثر على حالتهم الصحية وسلوكهم الغذائي فقط؛ بل امتد الأثر إلى أبنائهم وأحفادهم. فقد تم تتبع ذرية من عاش في مجاعة ثم سعة في الغذاء، ووجدوا ارتفاع معدل إصابة أبنائهم وأحفادهم بأمراض القلب والشرايين والسمنة والسكرى.
هذه الدراسات تفتح آفاقا جديدة لفهم كيف يمكننا برمجة عاداتنا الغذائية بطريقة تعود بالنفع على صحتنا.
ولا أستطيع الجزم بأن التبسي سيختفي من ثقافتنا لكنني متيقن أننا نستطيع ابتكار بديل عنه يحمل الكرم والعافية.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *