من اللَّه علي بأنَّ تنقَّلت في عدَّة دول وعملت في مجتمعات متنوِّعة ودائمًا، ما يراودني التَّساؤل التَّالي: لكلِّ مجتمع ثقافة عمل تستطيع تمييزها، وقد تختلف داخل الدَّولة نفسها بين مؤسَّساتها، لكنَّها تطغى وتتَّضح حتَّى للشَّخص الجديد المنضمِّ لهم.
عملت كذلك في وطنيّ ومع مجتمعيّ في عدَّة جهات ومع مجموعات مختلفة، سواءً بحثيَّة أو تعاونيَّة أو استشاريَّة، لكنِّي حتَّى الآن لم أجد الوصف المناسب لثقافة بيئة العمل السُّعوديِّ وأرجو منك، عزيزي القارئ، أنَّ تتبُّع هذه السُّطور وتساعدني في الإجابة.
أعتقد أنَّ بيئة العمل السُّعوديِّ تطوَّرت عبر مراحل وسنوات عديدة، تأثَّرت فيها بأمور كثيرة: اقتصاديَّةً مثل النِّفط والطَّفرة، وحتَّى تأثيرات سوق الأسهم وانهياره. تأثُّرنا بالصَّحوة، وكذلك بوجود غير السُّعوديِّين في البيئة المهنيَّة، وغير ذلك الكثير.
لكنِّي أعتقد أنَّ الآن، في عهد الرُّؤية المباركة 2030، هناك تشكِّلا واضحًا للثَّقافة المهنيَّة في بيئة العمل السُّعوديِّ. وهنا بالضَّبط حجر الأساس الَّذي أحاول فهمه. هل هذه التَّراكمات الماضية تؤثِّر وتخلق ما نحن عليه الآن؟ أم أنَّ المستقبل المشرق الَّذي نصنعه من خلال رؤية 2030 والتَّحوُّل هو ما يشكِّل ذلك؟ أعتقد أنَّ هناك صدامًا فكريًّا بين الاثنين، ودَّعني أوضح ذلك. هناك حالمون يرون أنَّ المستقبل مشرق، وأنَّ العمل الجماعيَّ مهمّ، وأنَّ التَّكاتف هو الأساس، وأنَّ المحصِّلة النِّهائيَّة هي استفادة الجميع.
هذه الأفكار قد تكون محل دراسة وبحث من قبل المؤسسات المؤثرة في التحول وقادتها ومحط نقاش بين المستثمرين وبعض روَّاد الأعمال. لكنِّي أعتقد أنَّ السَّواد الأعظم ما زال يعاني من تراكمات السُّنِّيِّين وتصارع الأفكار؛ فتجد التَّنافسيَّة العالية غير المحمودة والفردانيَّة في الأهداف. كما أنَّ التَّأثيرات الخارجيَّة، مثل العمالة الوافدة والثَّقافات العالميَّة، لعبت دورًا في تشكيل هذه الثَّقافة. التَّباين بين الأجيال، بين من يتمسَّك بالتَّقاليد والقيم القديمة ومن يتطلَّع إلى الحداثة والتَّطوير، أدَّى إلى صدَّام فكريّ يظهر في بيئة العمل.
وإن فتحنا الشَّفرة الوراثيَّة للفرد السُّعوديِّ، نجد أنَّ الدِّين والأخلاق والقيم العربيَّة الأصيلة جزءً لا يتجزَّأ منه. لكنَّ تأثير ذلك حقيقة مختلط وليس واضحًا. بمعنًى، هل المبادئ مثل الصِّدق والأمانة مغروسة حقَّ وعبادات الشَّخص تنعكس على أخلاقه المهنيَّة؟
من تجاربي، وجدت أنَّ هذين الأمرين لا يلتقيان دائمًا. فقد تجد الشَّخص يقطع عمله ويذهب للصَّلاة في وقتها وفي المسجد ولا يصلِّي حتَّى في ” مصلَّى العمل “، لكن داخل المكتب يظلم موظَّفيه ويخدع ويكذب. وعلى النَّقيض، وجدت زملاء ظاهرهم قد لا يوحي بالتزام دينيّ قويّ، لكنَّهم يعملون بمهنيَّة عالية وأخلاق رفيعة. هنا أطرح التَّساؤل: ما هي صيغة هذا المجتمع؟ وكيف نستطيع فهم ثقافتنا المهنيَّة؟
ربَّما يكون السَّبب هو التَّغيُّرات السَّريعة الَّتي مرَّ بها المجتمع السُّعوديُّ، من اقتصاد ريعيّ يعتمد على النِّفط يتساوى فيه معظم النَّاس في المكاسب والطُّموح، إلى اقتصاد متنوِّع ومتسارع وقويّ يسعى لتحقيق رؤية 2030. هل هذه التَّحوُّلات أثَّرت على القيم والمبادئ وخلقت نوعًا من الازدواجيَّة في السُّلوكيَّات المهنيَّة؟ رؤية 2030 تقدُّمًا لنا فرصة ذهبيَّة لإعادة تشكيل ثقافتنا المهنيَّة. نحتاج إلى التَّنافسيَّة المحمودة الَّتي تخرج أفضل ما لدينا لوطِّنا وأهلنا يلزمنا العمل نحو هدف واحد واضح وبين.
نحن أهل للمروءة والكرم والإحسان للغير في كلِّ شيء ويجب أن ينعكس ذلك في العمل. نحن أهل الصِّدق والأمانة ويجب أن ينعكس ذلك في علاقتنا المهنيَّة. من خلال التَّركيز على التَّعليم والتَّدريب، وتعزيز قيم التَّعاون والعمل الجماعيِّ، يمكننا بناء بيئة عمل صحِّيَّة ومنتجة. كما أنَّ التَّشجيع على الابتكار والإبداع سيساهم في تحقيق التَّقدُّم والازدهار. أدعوكم إلى التَّأمُّل في سلوكيَّاته المهنيَّة، والعمل على تطويرها بما يتوافق مع قيمنا الدِّينيَّة والأخلاقيَّة، وبما يحقِّق التَّقدُّم والازدهار لوطننا الغالي.